الخميس، 16 مايو 2013

حكم الانتفاع بالميتة في غير الأكل


بسم الله الرحمن الرحيم
حكم الانتفاع بالميتة في غير الأكل
الشيخ محمد سليمان الفرا
اتفق الفقهاء على أن الميتة لا يحل أكلها إلا عند الضرورة؛ ولكنهم اختلفوا في الانتفاع بها في غير الأكل؛ كطلاء السفن من شحومها، أو الاستصباح بها، أو إطعامها للكلب المعلم، والجوارح من الطيور التي يجوز اقتناؤها على مذهبين: ـ
ـ المذهب الأول: يجوز الانتفاع بالميتة في غير الأكل؛ كبيع وشـراء، وطلاء، أو وقود، أو تسـميد زرع، وبه قال عطاء بن أبي رباح، وهو مذهب جماعة من الحنفية، والظاهرية، ووافقهم الحنابلة في قول عنهم.
قال الجصاص: " قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومحمد بن صالح وعبيد الله بن الحسن: يجوز الانتفاع بعظام الميتة، ولا بأس بشعر الميتة، وصوفها، ولا يكون ميتة؛ لأنه يؤخذ منها في حال الحياة  " ( أحكام القرآن للجصاص: ج 1، ص 149 ). وأدلتهم في هذه المسألة تتلخص فيما يلي: ـ
1.  قال تعالى: { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ( سورة البقرة: الآية 173 ). والآية الكريمة وردت في سـياق بيان ما يجوز أكله مما لا يجوز؛ لقوله في مطلع الآيات: ( كلوا من طيبات )، وقوله في نهايتها: ( فمن اضطر غير باغ ) إي ألجأته الضرورة إلى الأكل.
2.  قال الله تعالى: { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْــفُوحاً أَوْ لَحْــمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْــسٌ أَوْ فِــسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْـــطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِــيمٌ } ( سورة الأنعام:145 ). فالآية حرمت الطعام فقط.
3.  أخرج البخاري في صحيحه عَنْ عبد الله بْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ قَالَ: ( وَجَدَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ شَاةً مَيِّتَةً أُعْطِيَتْهَا مَوْلَاةٌ لِمَيْمُونَةَ مِنْ الصَّدَقَةِ؛ فَقَالَ: هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِهَا ؟ قَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ، قَالَ: إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا ). وقد دل الحديث صراحة على أن المحرم هو الأكل فقط.
4.  ما أخرجه أحمد بإسناد صحيح عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَاتَتْ شَاةٌ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاتَتْ فُلَانَةُ ـ يَعْنِي الشَّاةَ ـ فَقَالَ: فَلَوْلَا أَخَذْتُمْ مَسْكَهَا، فَقَالَتْ: نَأْخُذُ مَسْكَ شَاةٍ قَدْ مَاتَتْ ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: { قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ }  فَإِنَّكُمْ لَا تَطْعَمُونَهُ، إِنْ تَدْبُغُوهُ فَتَنْتَفِعُوا بِهِ، فَأَرْسَـلَتْ إِلَيْهَا، فَسَلَخَتْ مَسْكَهَا، فَدَبَغَتْهُ فَأَخَذَتْ مِنْهُ قِرْبَةً حَتَّى تَخَرَّقَتْ عِنْدَهَا ). وقوله إنكم لا تطعمونه يفسر أن المحرم هو الأكل.
ـ المذهب الثاني: لا يجوز الانتفاع بالميتة مطلقاً، وتحرم سائر وجوه الانتفاع بها إلا إهابها فيجوز استعماله بعد الدباغ؛ لورود النص الخاص في ذلك، وهو مذهب جمهور الفقهاء المالكية، والشافعية، والحنابلة في المشهور عنهم، وجماعة من الحنفية. وأدلتهم تتلخص فيما يلي ـ
1.  ظاهر الآيات التي وردت في هذه المسألة حرمت الميتة بالمطلق، ولم تحرم أكلها فقط، وإضافة الحرمة لعين الميتة دليل على حرمة سائر وجوه الانتفاع بها.
2.  ما رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ( قَاتَلَ اللَّهُ يَهُودَ؛ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ، فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا ).
3.  ما أخرجه البخاري في صحيحه عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ: ( إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ، وَالْمَيْتَةِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالْأَصْنَامِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ ؟  فَإِنَّهَا يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ، فَقَالَ، لَا هُوَ حَرَامٌ ).
4.  ما أخرجه أبو داوود في سننه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ( إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَثَمَنَهَا، وَحَرَّمَ الْمَيْتَةَ وَثَمَنَهَا، وَحَرَّمَ الْخِنْزِيرَ وَثَمَنَهُ ).
5.  ما رواه أحمد في مسنده عَنْ بَرَكَةَ بْنِ الْعُرْيَانِ الْمُجَاشِعِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَدِّثُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: ( لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ، فَبَاعُوهَا، وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا حَرَّمَ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ ثَمَنَهُ ).
&           الراجح في المسألة: ـ
هذه هي أدلة المذهبين في هذه المسألة، والناظر فيها يجد أن كلا منهما قد استند إلى أدلة صحيحة في سندها، وصريحة في الدلالة على المطلوب منها، وعليه فلا مسوغ لانتقاد أدلتهما إسناداً، فوجب الجمع بينها بما يقر كلاً منها في موطنه اللائق به؛ للوصول للقول الصواب في المسألة، وعليه فيمكننا أن نسلك في فهم هذه الأحاديث النحو التالي: ـ
ـ أولاً: إن الأحاديث التي تدل على حرمة ثمن الميتة، والتي بينت أن الله تعالى إذا حرم أكل شيء حرم ثمنه؛ يمكن حملها على ما إذا كان المقصود منه الأكل، وقد بيع لأجل ذلك، فالثمن المحرم هو ما كان مقابلاً للمنفعة المحرمة.
فالله سبحانه وتعالى حرم لحوم الحُمُرِ الأهليةِ، وأكل الطين، والسموم، ونحوها من المؤذيات، ومع ذلك فقد أجمع الفقهاء على جواز بيعها لما فيها من منافع أخرى غلب القصد إليها، فلو بيعت لأجل الأكل لحرم ثمنها كما يحرم بيع العنب لمن سيعصره خمراً، وبيع السف لمن سيقتل به، وتأجير الدور لتتخذ أندية للقمار، أو مأوى للصوص، وهو ما يسمى في الفقه بـ ( أثر الباعث على التعاقد )
ـ ثانياً: أما ما أخرجه البخاري في صحيحه عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ: ( إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ، وَالْمَيْتَةِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالْأَصْنَامِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ ؟  فَإِنَّهَا يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ، فَقَالَ، لَا هُوَ حَرَامٌ ). فإنه يمكن تأويله على النحو التالي: ـ
إن منع بيع شحوم الميتة لطلاء السفن، ونحوها من وجوه الانتفاع إنما كان عام الفتح؛ لأن أهل قريشاً كانوا حديثي عهد بجاهلية، ولم لديهم في الجاهلية نكير عن تناول الميتة؛ فجاء تحريم سائر وجوه الانتفاع بالميتة رغبة في إبعادهم عنها بالكلية، وليترسخ التحريم في نفوسهم، كما أن الطلاء ونحوه من المنافع تعد تافهة وقليلة مقارنة  بحرمة أكلها آنذاك.
فلما استوطن الإسلام في نفوسهم أباحت الشريعة مخالطتها والانتفاع بها في غير الأكل؛ كالاستصباح، والطلاء، ودباغ الجلود.
ـ ثالثاً: أما الآيات فيمكن حملها على تحريم أكل الميتة فقط، وذلك بقرينة سياقها الذي وردت فيه، لدفع التعارض بينها وبين الأحاديث الصحيحة المجيزة للانتفاع بالميتة في غير الأكل.
&           سبب الخلاف في المسألة: ـ
يرجع الخلاف في هذه المسألة إلى السببين التاليتين: ـ
1.  اختلاف العلماء في فهم الآيات المحرمة للميتة: هل حرمت الميتة كلها ؟ وسائر وجوه الانتفاع بها ؟ أم أنها حرمت أكلها فقط ؟
فأصحاب المذهب الأول قالوا: إن الحرمة إنما هي للأكل فقط؛ لأن سياق الآيات يتحدث عما يحل وما لا يحل من الطعام، أما أصحاب المذهب الثاني فقد قالوا: إن التحريم لما أضيف لعين الميتة دل ذلك على حرمة سائر وجوه الانتفاع بها.
2.  تعارض النصوص الواردة في المسألة: فقد وردت أحاديث تنص صراحة على حرمة الانتفاع بالميتة من كل وجه، كما وردت أحاديث أخرى تبيح الانتفاع بالميتة في غير الأكل؛ وتدل تحريم الأكل فقط.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق