الأحد، 26 مايو 2013

حكم نقل الزكاة إلى خارج البلاد

بسم الله الرحمن الرحيم
حكم نقل الزكاة إلى خارج البلاد
إذا فاضت الزكاة في بلد عن حاجة أهلها جاز نقلها اتفاقا، بل يجب، وأما مع الحاجة ففيه خلاف:
المذهب الأول: يرى الحنفية أنه يكره تنزيها نقل الزكاة من بلد إلى بلد، وإنما تفرق صدقة كل أهل بلد فيهم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس: ( تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ). ولأن فيه رعاية حق الجوار، والمعتبر بلد المال، لا بلد المزكي.
واستثنى الحنفية أن ينقلها المزكي إلى قرابته، لما في إيصال الزكاة إليهم من صلة الرحم. قالوا: ويقدم الأقرب فالأقرب. واستثنوا أيضا أن ينقلها إلى قوم هم أحوج إليها من أهل بلده، وكذا لأصلح، أو أورع، أو أنفع للمسلمين، أو من دار الحرب إلى دار الإسلام، أو إلى طالب علم.
المذهب الثاني: ذهب المالكية والشافعية في الأظهر والحنابلة إلى أنه لا يجوز نقل الزكاة إلى ما يزيد عن مسافة القصر، لحديث ابن عباس في مبعث معاذ لليمن، ولما ورد ( أن عمر رضي الله عنه بعث معاذا إلى اليمن، فبعث إليه معاذ من الصدقة، فأنكر عليه عمر وقال: لم أبعثك جابيا ولا آخذ جزية، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس فترد على فقرائهم، فقال معاذ: ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد من يأخذه مني ). وإليه ذهب ابن عبد العزيز.
قالوا: والمعتبر بلد المال لا بلد المزكي، إلا أن المالكية فرقوا، فقالوا: المعتبر في الأموال الظاهرة البلد الذي فيه المال، وفي النقد وعروض التجارة البلد الذي فيه المالك. واستثنى المالكية من ذلك أن يوجد من هو أحوج ممن هو في البلد، فيجب حينئذ النقل منها ولو نقل أكثرها.

وإذا نقلت الزكاة حيث لا مسوغ لنقلها مما تقدم، فقد ذهب الحنفية والشافعية، والحنابلة على المذهب، إلى أنها تجزئ عن صاحبها؛ لأنه لم يخرج عن الأصناف الثمانية المذكورة، واختلف النقل عن المالكية في ذلك، وقال الحنابلة في رواية عن الإمام أحمد: لا تجزئه بكل حال؛ بل يجب عليه أن يخرجها في البلد مرة أخرى.

هل يجب دفع الزكاة إلى الإمام ؟

بسم الله الرحمن الرحيم
هل يجب دفع الزكاة إلى الإمام ؟
إذا كان بإمكان المكلف دفع الزكاة للإمام، وتفريقها بنفسه، فقد اختلف الفقهاء في ذلك:
المذهب الأول: ذهب أبو حنيفة ومالك وأبو عبيد، وهو القديم من قولي الشافعي: إلى التفريق بين الأموال الظاهرة، وهي الزروع، والمواشي، والمعادن، ونحوها، وبين الأموال الباطنة وهي الذهب والفضة والتجارات.
أما الظاهرة فيجب دفعها إلى الإمام، لقوله تعالى: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } التوبة 103، ولحديث ابن عباس، ولأنَّ أبا بكر طالبهم بالزكاة وقاتلهم عليها، ووافقه الصحابة على هذا، فليس للمزكي إخراجها بنفسه، حتى لقد صرح الشافعية بأنه لو أخرجها كذلك لم تجزئه.
وأما زكاة الأموال الباطنة فقال الحنفية: للإمام طلبها، وحقه ثابت في أخذ الزكاة من كل مال تجب فيه الزكاة، لعموم آية التوبة. وما فعله عثمان رضي الله عنه أنه فوض إلى الملاك زكاة المال الباطن، فهم نوابه في ذلك، وهذا لا يسقط طلب الإمام أصلا، ولهذا لو علم أن أهل بلدة لا يؤدون زكاتهم طالبهم بها. فأما إذا لم يطلبها لم يجب الدفع إليه.
وقال المالكية والشافعية: زكاة الأموال الباطنة مفوضة لأربابها، فلرب المال أن يوصلها إلى الفقراء وسائر المستحقين بنفسه، وله أن يسلمها للإمام ولا يجب عليه ذلك.
المذهب الثاني: ذهب الحنابلة، وهو الجديد المعتمد من قولي الشافعي: إلى أن الدفع إلى الإمام غير واجب في الأموال الظاهرة والباطنة على السواء، فيجوز للمالك صرفها إلى المستحقين مباشرة، قياسا للظاهرة على الباطنة، ولأنَّ في ذلك إيصال الحق إلى مستحقه الجائز تصرفه، فيجزئه، كما لو دفع الدين إلى غريمه مباشرة، وأخذ الإمام لها إنما هو بحكم النيابة عن مستحقها، فإذا دفعها إليهم جاز؛ لأنهم أهل رشد.
ثم قال الشافعية في الأظهر: الصرف إلى الإمام أفضل من تفريقها بنفسه؛ لأنه أعرف بالمستحقين، وأقدر على التفريق بينهم، وبه يبرأ ظاهرا وباطنا.
وقال الحنابلة: تفرقتها بنفسه أولى وأفضل من دفعها إلى الإمام؛ لأنه إيصال للحق إلى مستحقه، فيسلم عن خطر الخيانة من الإمام أو عماله؛ ولأن فيه مباشرة تفريج كربة من يستحقها، وفيه توفير لأجر العمال الساعين عليها، مع تمكنه من إعطاء القريب المحتاج، وذوي رحمه، وصلتهم بها، إلا أنه إن لم يثق بأمانة نفسه فالأفضل له دفعها إلى الساعي، لئلا يمنعه الشح من إخراجها.

أما لو طلب الإمام العادل الزكاة فإنه يجب الدفع إليه اتفاقا، سواء كان المال ظاهرا أو باطنا، والخلاف في استحقاقه جمع زكاة المال الباطن لا يبيح معصيته في ذلك إن طلبه، لأن الموضع موضع اجتهاد، وأمر الإمام يرفع الخلاف كحكم القاضي، كما هو معلوم من قواعد الشريعة. وقد صرح المالكية بأن الإمام العدل إذا طلب الزكاة فادعى المالك إخراجها؛ لم يصدق إلا ببينة.

آيات الأحكام مفهومها وعددها وصيغها

بسم الله الرحمن الرحيم
آيات الأحكام... مفهومها وعددها وصيغها
§       مفهوم آيات الأحكام:
في المصطلح الفقهي غالباً ما نطلق مصلح آيات الأحكام على الآيات القرآنية التي تتناول الأحكام الشرعية العملية، أي هي: الآيات التي يمكن بصحيح النظر فيها التوصل إلى حكم شرعي عملي.
§       عدد آيات الأحكام
اختلف في عددها على أقوال عدة، أهمها:
1.      أكثر من 800 آية، وإلى ذلك ذهب ابن العربي المالكي.
2.      حوالي 500 أية، وقال بذلك الغزالي وأصوليو الشافعية.
3.      حوالي 200 آية، وقال بذلك الصنعاني.
4.      حوالي 150 آية، وقال بذلك ابن القيم.
قال الغزالي وتبعه جماهير علماء الأصول: " إن الذي في الكتاب العزيز من ذلك قدر خمسمائة آية، وقال ابن العربي: "وقد يزيد عليها بحسب تبحر الناظر وسعة علمه" .
وقال الشوكاني:" ودعوى الانحصار في هذا المقدار إنما هي باعتبار الظاهر للقطع بأن في الكتاب العزيز من الآيات التي تستخرج منها الأحكام الشرعية أضعاف أضعاف ذلك، بل من له فهم صحيح وتدبر كامل يستخرج الأحكام من الآيات الواردة لمجرد القصص والأمثال ".
لكن يبدو أن الغزالي ومن تابعه قصدوا بذلك الآيات الدالة على الأحكام دلالة أولية بالذات لا بطريق التضمن والالتزام، وقد حكى المارودي عن بعض أهل العلم أن اقتصار المقتصرين على العدد المذكور إنما هو لأنهم رأوا مقاتل بن سليمان أفرد آيات الأحكام في تصنيف وجعلها خمسمائة آية، وقال الأستاذ أبو منصور يشترط معرفة ما يتعلق بحكم الشرع ولا يشترط معرفة ما فيها من القصص والمواعظ .
§       لماذا اختلف في عددها ؟
يوضح ذلك الدكتور عمر الأشقر في كتابه ( تاريخ الفقه الإسلامي )، حيث يقرر أن هذا الاختلاف جاء تبعاً لاختلافهم في مفهوم آيات الأحكام: ـ
1.  فبعضهم ذهب إلى أن آيات الأحكام هي الآيات التي يمكن استنباط حكم شرعي منها، وإن كان موضوعها، أو سياقها في غير آيات الأحكام.
2.      وذهب بعضهم إلى أن آيات الأحكام هي فقط الآيات التي موضوعها بيان الحكم الشرعي.
§       صيغ آيات الأحكام:
لا يقتصر صيغ آيات الأحكام على الأمر والنهي فقط، بل وردت في القرآن العديد الصيغ التي تفيد أحكاما شرعية، وأشهرها هي: ـ
1.      الأمر: { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } (التوبة: من الآية36).
2.    النهي: { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ  } (البقرة:221).
3.      الفرض: { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } (التحريم:2).
4.      الكتابة: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } (البقرة: من الآية216).
5.      الوصية: { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } (النساء: من الآية11)
6.      الأسلوب الخبري: { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } (البقرة: من الآية233).
ـ تمت بحمد الله ـ

الخميس، 16 مايو 2013

حكم الانتفاع بالميتة في غير الأكل


بسم الله الرحمن الرحيم
حكم الانتفاع بالميتة في غير الأكل
الشيخ محمد سليمان الفرا
اتفق الفقهاء على أن الميتة لا يحل أكلها إلا عند الضرورة؛ ولكنهم اختلفوا في الانتفاع بها في غير الأكل؛ كطلاء السفن من شحومها، أو الاستصباح بها، أو إطعامها للكلب المعلم، والجوارح من الطيور التي يجوز اقتناؤها على مذهبين: ـ
ـ المذهب الأول: يجوز الانتفاع بالميتة في غير الأكل؛ كبيع وشـراء، وطلاء، أو وقود، أو تسـميد زرع، وبه قال عطاء بن أبي رباح، وهو مذهب جماعة من الحنفية، والظاهرية، ووافقهم الحنابلة في قول عنهم.
قال الجصاص: " قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومحمد بن صالح وعبيد الله بن الحسن: يجوز الانتفاع بعظام الميتة، ولا بأس بشعر الميتة، وصوفها، ولا يكون ميتة؛ لأنه يؤخذ منها في حال الحياة  " ( أحكام القرآن للجصاص: ج 1، ص 149 ). وأدلتهم في هذه المسألة تتلخص فيما يلي: ـ
1.  قال تعالى: { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ( سورة البقرة: الآية 173 ). والآية الكريمة وردت في سـياق بيان ما يجوز أكله مما لا يجوز؛ لقوله في مطلع الآيات: ( كلوا من طيبات )، وقوله في نهايتها: ( فمن اضطر غير باغ ) إي ألجأته الضرورة إلى الأكل.
2.  قال الله تعالى: { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْــفُوحاً أَوْ لَحْــمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْــسٌ أَوْ فِــسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْـــطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِــيمٌ } ( سورة الأنعام:145 ). فالآية حرمت الطعام فقط.
3.  أخرج البخاري في صحيحه عَنْ عبد الله بْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ قَالَ: ( وَجَدَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ شَاةً مَيِّتَةً أُعْطِيَتْهَا مَوْلَاةٌ لِمَيْمُونَةَ مِنْ الصَّدَقَةِ؛ فَقَالَ: هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِهَا ؟ قَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ، قَالَ: إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا ). وقد دل الحديث صراحة على أن المحرم هو الأكل فقط.
4.  ما أخرجه أحمد بإسناد صحيح عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَاتَتْ شَاةٌ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاتَتْ فُلَانَةُ ـ يَعْنِي الشَّاةَ ـ فَقَالَ: فَلَوْلَا أَخَذْتُمْ مَسْكَهَا، فَقَالَتْ: نَأْخُذُ مَسْكَ شَاةٍ قَدْ مَاتَتْ ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: { قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ }  فَإِنَّكُمْ لَا تَطْعَمُونَهُ، إِنْ تَدْبُغُوهُ فَتَنْتَفِعُوا بِهِ، فَأَرْسَـلَتْ إِلَيْهَا، فَسَلَخَتْ مَسْكَهَا، فَدَبَغَتْهُ فَأَخَذَتْ مِنْهُ قِرْبَةً حَتَّى تَخَرَّقَتْ عِنْدَهَا ). وقوله إنكم لا تطعمونه يفسر أن المحرم هو الأكل.
ـ المذهب الثاني: لا يجوز الانتفاع بالميتة مطلقاً، وتحرم سائر وجوه الانتفاع بها إلا إهابها فيجوز استعماله بعد الدباغ؛ لورود النص الخاص في ذلك، وهو مذهب جمهور الفقهاء المالكية، والشافعية، والحنابلة في المشهور عنهم، وجماعة من الحنفية. وأدلتهم تتلخص فيما يلي ـ
1.  ظاهر الآيات التي وردت في هذه المسألة حرمت الميتة بالمطلق، ولم تحرم أكلها فقط، وإضافة الحرمة لعين الميتة دليل على حرمة سائر وجوه الانتفاع بها.
2.  ما رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ( قَاتَلَ اللَّهُ يَهُودَ؛ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ، فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا ).
3.  ما أخرجه البخاري في صحيحه عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ: ( إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ، وَالْمَيْتَةِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالْأَصْنَامِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ ؟  فَإِنَّهَا يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ، فَقَالَ، لَا هُوَ حَرَامٌ ).
4.  ما أخرجه أبو داوود في سننه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ( إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ وَثَمَنَهَا، وَحَرَّمَ الْمَيْتَةَ وَثَمَنَهَا، وَحَرَّمَ الْخِنْزِيرَ وَثَمَنَهُ ).
5.  ما رواه أحمد في مسنده عَنْ بَرَكَةَ بْنِ الْعُرْيَانِ الْمُجَاشِعِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَدِّثُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: ( لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ، فَبَاعُوهَا، وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا حَرَّمَ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ ثَمَنَهُ ).
&           الراجح في المسألة: ـ
هذه هي أدلة المذهبين في هذه المسألة، والناظر فيها يجد أن كلا منهما قد استند إلى أدلة صحيحة في سندها، وصريحة في الدلالة على المطلوب منها، وعليه فلا مسوغ لانتقاد أدلتهما إسناداً، فوجب الجمع بينها بما يقر كلاً منها في موطنه اللائق به؛ للوصول للقول الصواب في المسألة، وعليه فيمكننا أن نسلك في فهم هذه الأحاديث النحو التالي: ـ
ـ أولاً: إن الأحاديث التي تدل على حرمة ثمن الميتة، والتي بينت أن الله تعالى إذا حرم أكل شيء حرم ثمنه؛ يمكن حملها على ما إذا كان المقصود منه الأكل، وقد بيع لأجل ذلك، فالثمن المحرم هو ما كان مقابلاً للمنفعة المحرمة.
فالله سبحانه وتعالى حرم لحوم الحُمُرِ الأهليةِ، وأكل الطين، والسموم، ونحوها من المؤذيات، ومع ذلك فقد أجمع الفقهاء على جواز بيعها لما فيها من منافع أخرى غلب القصد إليها، فلو بيعت لأجل الأكل لحرم ثمنها كما يحرم بيع العنب لمن سيعصره خمراً، وبيع السف لمن سيقتل به، وتأجير الدور لتتخذ أندية للقمار، أو مأوى للصوص، وهو ما يسمى في الفقه بـ ( أثر الباعث على التعاقد )
ـ ثانياً: أما ما أخرجه البخاري في صحيحه عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ: ( إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ، وَالْمَيْتَةِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالْأَصْنَامِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ ؟  فَإِنَّهَا يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ، فَقَالَ، لَا هُوَ حَرَامٌ ). فإنه يمكن تأويله على النحو التالي: ـ
إن منع بيع شحوم الميتة لطلاء السفن، ونحوها من وجوه الانتفاع إنما كان عام الفتح؛ لأن أهل قريشاً كانوا حديثي عهد بجاهلية، ولم لديهم في الجاهلية نكير عن تناول الميتة؛ فجاء تحريم سائر وجوه الانتفاع بالميتة رغبة في إبعادهم عنها بالكلية، وليترسخ التحريم في نفوسهم، كما أن الطلاء ونحوه من المنافع تعد تافهة وقليلة مقارنة  بحرمة أكلها آنذاك.
فلما استوطن الإسلام في نفوسهم أباحت الشريعة مخالطتها والانتفاع بها في غير الأكل؛ كالاستصباح، والطلاء، ودباغ الجلود.
ـ ثالثاً: أما الآيات فيمكن حملها على تحريم أكل الميتة فقط، وذلك بقرينة سياقها الذي وردت فيه، لدفع التعارض بينها وبين الأحاديث الصحيحة المجيزة للانتفاع بالميتة في غير الأكل.
&           سبب الخلاف في المسألة: ـ
يرجع الخلاف في هذه المسألة إلى السببين التاليتين: ـ
1.  اختلاف العلماء في فهم الآيات المحرمة للميتة: هل حرمت الميتة كلها ؟ وسائر وجوه الانتفاع بها ؟ أم أنها حرمت أكلها فقط ؟
فأصحاب المذهب الأول قالوا: إن الحرمة إنما هي للأكل فقط؛ لأن سياق الآيات يتحدث عما يحل وما لا يحل من الطعام، أما أصحاب المذهب الثاني فقد قالوا: إن التحريم لما أضيف لعين الميتة دل ذلك على حرمة سائر وجوه الانتفاع بها.
2.  تعارض النصوص الواردة في المسألة: فقد وردت أحاديث تنص صراحة على حرمة الانتفاع بالميتة من كل وجه، كما وردت أحاديث أخرى تبيح الانتفاع بالميتة في غير الأكل؛ وتدل تحريم الأكل فقط.

حكم أكل السمك الطافي والجراد الذي مات حتف أنفه


بسم الله الرحمن الرحيم

حكم أكل السمك الطافي والجراد الذي مات حتف أنفه

الشيخ محمد سليمان الفرا

قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ( البقرة: 172، 173 ).

&           حكم ميتة السمك والجراد:

دلت الآيات على حرمة جملة من الأعيان: ( الميتة، الدم، لحم الخنزير، ما أهل به لغير الله ). والميتة في اصطلاح الفقهاء: ( ما مات حتف أنفه، ومأكول اللحم إذا مات بغير ذكاة شرعية، ويشمل غير مأكول اللحم ولو ذبح بذكاة شرعية ).

ـ فائدة في أسباب النزول: جاء في تفسير الطبري: " عن عبد الله ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: ( جادل المشركون المسلمين، فقالوا: ما بال ما قتل الله لا تأكلونه ؟ وما قتلتم أنتم أكلتموه ؟ وأنتم تتبعون أمر الله ؟ فأنزل الله تعالى: { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } ( سورة الأنعام: الآية 121 ).
 
وأجمع العلماء على حرمة أكل الميتة لورود النصوص القاطعة في ذلك، ومنها: ـ

1.  قال تعالى: { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }، ( سورة البقرة: الآية 173 ).
2.  وقال جل وعلا: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ }، ( سورة المائدة: من الآية 3 ).
3.  وقال الله تعالى أيضاً: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ( سورة النحل: الآية 115 ).
ـ وجه الدلالة من الآيات الكريمة: نصت هذه الآيات صراحة على حرمة أكل الميتة، وهي عامة في كل ميتة؛ لأنه قوله تعالى ( ميتة ) من ألفاظ العموم؛ لمجيئها محلاة بـ ( أل ) التعريف، ومعلوم أن (أل) التعريف إذا دخلت على جنس شملت جميع أفراده.

ولكن وردت أدلة خاصة تبيح تناول بعض أنواع الميتة، وهي على النحو التالي: ـ

1.  أخرج البخاري في صحيحه عن عبد الله بن أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: ( غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ سَبْعَ غَزَوَاتٍ أَوْ سِتًّا كُنَّا نَأْكُلُ مَعَهُ الْجَرَادَ )

2.  أخرج ابن ماجه في سننه عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُمَا ـ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ( أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ الْحُوتُ وَالْجَرَادُ ).

3.  وأخرج الترمذي في سننه أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ أَبِي بُرْدَةَ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: ( سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ، وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنْ الْمَاءِ؛ فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا؛ أَفَنَتَوَضَّأُ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ ).

4.  أخرج الشيخان في صححيهما عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ قال: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ثَلَاثَ مِائَةِ رَاكِبٍ أَمِيرُنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ نَرْصُدُ عِيرَ قُرَيْشٍ، فَأَقَمْنَا بِالسَّاحِلِ نِصْفَ شَهْرٍ فَأَصَابَنَا جُوعٌ شَدِيدٌ حَتَّى أَكَلْنَا الْخَبَطَ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْجَيْشُ جَيْشَ الْخَبَطِ، فَأَلْقَى لَنَا الْبَحْرُ دَابَّةً يُقَالُ لَهَا الْعَنْبَرُ فَأَكَلْنَا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ وَادَّهَنَّا مِنْ وَدَكِهِ حَتَّى ثَابَتْ إِلَيْنَا أَجْسَامُنَا... فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ كُلُوا رِزْقًا أَخْرَجَهُ اللَّهُ أَطْعِمُونَا إِنْ كَانَ مَعَكُمْ فَأَتَاهُ بَعْضُهُمْ فَأَكَلَهُ ).

وعليه فهذه الأحاديث تدل على جواز أكل نوعين من الميتة، هما: ( ميتة السمك، وميتة الجراد )، وإليك تفصيل أقوال أهل العلم في المسألة: ـ

ـ أولاً: ميتة السمك: فقد اجمع العلماء على عدم حاجته للذبح بذكاة الشرعية، ولكنهم اختلفوا في السمك الطافي على وجه الماء: ـ

فذهب جمهور العلماء إلى إباحة أكله لعموم الأدلة السابقة؛ ذلك أنها لم تفرق بين ما تم اصطياده، وما يطفوا على وجه الماء.

ولكن الحنفية خالفوا، فذهبوا إلى تحريم السمك الطافي على وجه البحر، وأحلوا ما جزر عنه.

وقد استدلوا على ذلك بما أخرجه أبو داوود وابن ماجه وغيرهم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ـ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُمَا ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: ( مَا أَلْقَى الْبَحْرُ أَوْ جَزَرَ عَنْهُ فَكُلُوهُ، وَمَا مَاتَ فِيهِ وَطَفَا فَلَا تَأْكُلُوهُ ).

 قَالَ أَبُو دَاوُد رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَيُّوبُ وَحَمَّادٌ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَوْقَفُوهُ عَلَى جَابِرٍ، وَقَدْ أُسْنِدَ هَذَا الْحَدِيثُ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي سنده إسماعيل بن أمية وهو متروك الحديث.

ـ ثانياً: الجراد: وقد أجمع العلماء على جواز أكله؛ ولكنهم اختلفوا فيما مات حتف أنفه، ولم يمت بسبب؛ هل يجوز أكله أم لا ؟

فذهب جمهور العلماء إلى إباحة أكله كيفما مات؛ بسـبب أو غيره عملاً بعموم الأحـاديث المبيحة لأكله، وخالف الإمام مـالك والإمام أحمد في رواية عنه فقالا: لا يجوز أكله إلا إذا مات بسـبب؛ أما إذا مات بغير سـبب فلا يجوز أكله، ولا دليل لهم، بل إن قولهم مخالف لعموم الأحاديث السـابقة.

حكم الكفارة قبل الحنث في اليمين


بسم الله الرحمن الرحيم
هل تجزئ الكفارة قبل الحنث في اليمين ؟
الشيخ محمد سليمان الفرا

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد... من المسائل الفقهية التي تمس واقع الناس الاجتماعي مسائل الأيمان وكفاراتها، ومنها مسألتنا ( هل تجزئ الكفارة قبل الحنث في اليمين ؟ ). ذلك أننا نعرف أن من حنث في يمين وجبت عليه الكفارة ، ولكن من خلف على شيء ثم نوى الحنث: هل يجوز له أن يكفر قبل الحنث أم لا يكفر إلا بعد أن يحنث في يمينه؟
أولاً: مذاهب العلماء:
§    المذهب الأول: يجزئ مطلقا ( سواء كانت مالاً أو صوماً ) وهو مذهب أربعة عشر من الصحابة وجمهور الفقهاء وهو مشهور مذهب مالك.
§        المذهب الثاني: لا تجزئ قبل الحنث مطلقاً، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، ورواية أشهب عن مالك.
§        المذهب الثالث: تجزئ بالإطعام والعتق والكسوة، ولا تجزئ بالصوم، وبه قال الإمام الشافعي.
ـ قال الشوكاني في نيل الأوطار: رأي ربيعة والأوزاعي ومالك والليث وسائر فقهاء الأمصار غير أهل الرأي أن الكفارة تجزئ قبل الحنث إلا أن الشافعي استثنى الصيام فقال: لا يجزئ إلا بعد الحنث وقال أصحاب الرأي: لا تجزئ الكفارة قبل الحنث. وعن مالك روايتان. ووافق الحنفية أشهب من المالكية وداود الظاهري, وخالفه ابن حزم.
ثانيا: أدلة المذاهب:
§        أدلة المذهب الأول: استدل أصحاب هذا المذهب على ما ذهبوا إليه بما يلي:
1.   قوله تعالى: { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ }، فالآية الكريمة رتبت الكفارة على اليمين المنعقدة لا على الحنث.
2.  وقوله تعالى: { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ذَلِكَ }، فالآية الكريمة أضافت الكفارة إلى اليمين، وعليه فاليمين هي سبب الكفارة، فإذا وقع السبب وقع المسبب.
3.  ما أخرجه أبو داوود عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير ). وجه الدلالة: ظاهر الحديث يرتب الكفارة على اليمين أيضا.
قال القرطبي: " اليمين سبب الكفارة؛ لقوله تعالى: { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ذَلِكَ } فأضاف الكفارة إلى اليمين، والمعاني تضاف إلى أسبابها؛ وأيضا فإن الكفارة بدل عن البر فيجوز تقديمها قبل الحنث ".
§        أدلة المذهب الثاني: واستدل أصحاب هذا المذهب على ما ذهبوا إليه بما يلي:
1.  ما رواه مسلم عن عدي بن حاتم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من حلف على يمين ثم رأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ) زاد النسائي ( وليكفر عن يمينه ). فالحديث رتب الكفارة على الحنث لا على اليمين.
2.     الكفارة إنما هي لرفع الإثم، وما لم يحنث لم يكن هناك إثم حتى يُرفع فلا معنى لفعلها.
3.     الآية الكريمة فيها إضمار فيصبح المعنى ( أي إذا حلفتم وحنثتم )، ورده مخالفوه فقالوا: بل التقدير ( إذا حلفتم فأردتم الحنث.. ).
4.     وأيضا فإن كل عبادة فعلت قبل وجوبها لم تصح قياساُ على الصلوات وسائر العبادات.
§        أدلة المذهب الثالث:
قال الشافعي ـ رحمه الله تعالى: فمن حلف على شيء فأراد أن يحنث , فأحب إلي لو لم يكفر حتى يحنث وإن كفر قبل الحنث بإطعام رجوت أن يجزي عنه وإن كفر بصوم قبل الحنث لم يجز عنه , وذلك أنا نزعم أن لله تبارك وتعالى حقا على العباد في أنفسهم وأموالهم فالحق الذي في أموالهم إذا قدموه قبل محله أجزأهم وأصل ذلك { أن النبي صلى الله عليه وسلم تسلف من العباس صدقة عام قبل أن يدخل } وأن المسلمين قد قدموا صدقة الفطر قبل أن يكون الفطر فجعلنا الحقوق التي في الأموال قياسا على هذا , فأما الأعمال التي على الأبدان فلا تجزي إلا بعد مواقيتها كالصلاة التي لا تجزي إلا بعد الوقت والصوم لا يجزي إلا في الوقت أو قضاء بعد الوقت الحج الذي لا يجزي العبد ولا الصغير من حجة الإسلام ; لأنهما حجا قبل أن يجب عليهما.  ( الأم للشافعي ـ الأيمان والنذور والكفارات في الأيمان ـ الكفارة قبل الحنث وبعده ـ ص 67 ).
وبالتالي يكون هذا المذهب هو الراجح جمعا بين المذاهب، والله تعالى أعلم
ثالثا: سبب الخلاف:
1.     الاختلاف في فهم الآية { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ذَلِكَ } هل هي على ظاهرها أم فيها إضمار ؟
2.     التعارض الظاهري بين حديثي أبي موسى الأشعري، وعدي بن حاتم.
3.  اختلافهم هل الكفارة تمنع من الحنث، أم ترفع إثمه إذا وقع ؟ فمن قال تمنع من الحنث أجازها قبله، ومن قال ترفع إثمه لم يجزها قبله لأنه لا إثم قبل الحنث.