الأربعاء، 11 ديسمبر 2013

بين القنوت والقنوط

بسم الله الرحمن الرحيم
بين القنوت والقنوط
الشيخ محمد سليمان الفرا
مع بدء موسم الشتاء في كلِّ عام تسمعُ عدداً من الناس يدعو ربه راجياً نزول الغيث بقوله: ( اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانتين ) [ بحرف التاء ]، كما أن عدداً من المصلين يسأل: ( يا شيخ ما حكم دعاء القنوط ) [ بحرف الطاء ]، وكلاهما خطأٌ بيِّنٌ في اللغة العربية، ولذلك وجب التنبيه إلى الفرق بين الكلمتين؛ ذلك أن الاختلاف بينهما في المبنى يقود إلى اختلافٍ كبيرٍ في المعنى، والفرق بينهما على النحو التالي:
أولاً: معنى القنوت:
( القنوتُ ) مصدرٌ من الفعل الثلاثي اللازم ( قنتَ )، وتأتي في اللغة على عدّةٍ معانٍ، منها الدُّعَاء وَالْقِيَام، والخشوع وَالصَّلَاة، والخضوع وَالسُّكُوت، وَإِقَامَة الطَّاعَة.
ومن ذلك حديث أنسٍ رضي الله عنه ( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ شَهْرًا يَلْعَنُ رِعْلاً وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ عَصَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) متفق عليه، والمعنى يدعو عليهم في صلاته.
وحديث جابرٍ رضي الله عنه مرفوعاً ( أَفْضَل الصَّلَاة طُول الْقُنُوت ) أخرجه مسلمٌ، والمعنى: طول القيام على ما ذكره النووي، أو طول الدعاء على ما رجَّحه غيرهُ.
وقد ورد ذكر القنوت في القرآن الكريم في عدة مواضع كلُّها تدور على المعاني السابقة، منها قوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} آل عمران، 43، أي: أطيعي ربكِ، أو داومي على طاعة ربِّكِ، وكذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} الأحزاب، 31.
وقوله جلَّ وعلا: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} البقرة، 116، والمعنى: خاضعون له, مسخَّرون تحت تدبيره، وقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} البقرة: 238، أي خاشعين أو ساكتين لا تتكلموا في صلاتكم.
وعليه فكل المعاني التي تكور عليها كلمة ( القنوت ) هي معاني خيرٍ مطلوبةٌ منا بنص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
ثانياً: معنى القنوط:
أما ( القنوط ) فيدور معناه في اللغة على اليأس، أو شدةِ اليأس، وانقطاع الأمل عن الخروج من الحالة التي يكون الانسان عليها، ومنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ) متفقٌ عليه، والمعنى ما يئس الكافر رحمة الله تعالى فأقبل عليه تائباً لينال الجنة.
وقد جاء في قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} الزمر، 53، معناها: يا محمد قل للعصاة من عبادي الذين تمادَوا في الذنوب, وأسرفوا على أنفسهم باقتراف كلِّ ما دعتهم إليه شهواتهم: لا تَيْئسوا من رحمة الله؛ فإن الله يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب منها ورجع عنها مهما كانت, إنه هو الغفور لذنوب التائبين من عباده, الرحيم بهم الذي يرحم ضعفهم واستكانتهم.
وكذلك قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} الشورى، 28، أي من بعد ما اشتدَّ يأسهم من نزوله.
وبهذا يتبين أن الكلمتين يكاد يكون بينهما تضادٌّ في المعنى، فالقنوت يحمل معنى الرجاء، والقنوط دائرٌ معناه على الياس او أشدِّ اليأس.
والله تعالى أعلم

الاثنين، 4 نوفمبر 2013

يوم عاشوراء.. دلالاتٌ وفضائلُ وأحكامٌ

بسم الله الرحمن الرحيم
يوم عاشوراء.. دلالاتٌ وفضائلُ وأحكامٌ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وبعد...
1.  مكانة شهر محرم في الإسلام:
شهر الله المحرم له في الإسلام حرمة وفضل:
أما حرمته فلأنه من الأشهر الأربعة الحرم، التي قال الله تعالى عنها: { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } ( سورة التوبة، الآية 36 ).
وعن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حَجِّتِه، فقال: ( ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض؛ السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر بين جمادى وشعبان ) متفق عليه.
وظلم النفس منهيٌّ عنه في كلِّ زمانٍ، لكن خصَّ الله الأشهر الحرم بالذكر، ونهى عن الظلم فيها تشريفاً لها، وتعظيماً لمكانتها، ذلك أن العمل الصالح فيها مضاعف؛ فكذلك المعاصي إذا تركبت فيها تكون مضاعفة.
ومما على شاكلة ذلك قوله تعالى عن الحج: { فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } ( سورة البقرة: من الآية 197 )، مع أنَّ الفسوق والجدال منهيٌ عنهما في غير الحج كذلك.
وأما فضله فيدل له ما أخرجَه مسلمٌ في صحيحهِ عن أبِي هريرةَ " أن رسولَ اللهِ r قال: (أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاَةُ اللَّيْلِ)، فصيام شهر الله المحرم يأتي في المرتبة الثانية بعد صيام شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن.
وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم محرم بشهر الله، وإضافته إلى الله تدل على شرفه وفضله، ذلك أن الله تعالى لا يضيف إليه إلا خواص مخلوقاته وعباده.
ولذلك قال الحسن البصري: إن الله افتتح السنة بشهر حرام وختمها بشهر حرام، فليس شهر في السنة بعد شهر رمضان أعظم عند الله من المحرم، وكان يسمى شهر الله الأصم من شدة تحريمه.
2.   فضل يوم عاشوراء ودلالاته التاريخية والحضارية.
يُوافقُ يومُ ( عاشوراء ) اليومَ العاشرَ من شهرِ مُحَرَّم، ويُقالُ لليومِ الذي يسبقُه ( تاسوعاء )، وهو يوم فضيل؛ لما أخرجَ مسلمٌ في صحيحهِ عن أبِي قتادةَ " أن النبي r قال: (وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ)، فصيامُ يوم عاشوراء يُكفِّرُ ذنوبَ السنةِ الماضيةِ كاملةً، بشرطِ اجتنابِ الكبائرِ، وردِّ حقوقِ العبادِ لأصحابِها.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ( مَا عَلِمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ يَبْتَغِي فَضْلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ عَاشُورَاءَ وَشَهْرَ رَمَضَانَ )، وأصله في البخاري.
ويومُ عاشوراء له دلالاتٌ تاريخيةٌ وحضاريةٌ كبرى؛ فهو علامةٌ فارقة بين الإيمان والكفر، ومبشرٌ من مبشرات انتصار الحق وأهله، واندحار الباطل وحزبه؛ حيث أنجى الله فيه موسى عليه السلام وقومه من فرعون وملئه، وأغرقه في اليم وجنوده أجمعين، ولذلك كانت اليهود تصومه.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا اليوم الذي تصومونه ؟ فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً، فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه ) متفق عليه، وعند الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( وهو اليوم الذي استوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح شكراً ) وفي إسناده ضعف.
3.    حكم صيام عاشوراء ومراتب صيامه:
صيامُ يومِ عاشوراء سنةٌ عن النبي r، ويُستحبُّ لِمن أراد صيامَه أن يصومَ معه اليومَ التاسعَ مُخالفةً لليهودِ الذين يكتفون بصيامِ العاشرِ، فقد أخرج مسلمٌ في صحيحِه عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ م قال: (صَامَ رَسُولُ اللَّهِ < يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ؛ فقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ <: فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ)، وقد جعل العلماء لصيامه مراتب:
الأولى: صيام اليوم التاسع والعاشر، وهي أفضل المراتب؛ لحديث ابن عباس وفي رواياته ( لئن بقيت إلى قابلٍ لأصومنَّ التاسع والعاشر )، ولذلك قال ابن عباس: ( صُومُوا التَّاسِعَ وَالْعَاشِرَ وَخَالِفُوا الْيَهُودَ ).
الثانية: صيام اليوم العاشر والحادي عشر؛ لحديث ابن عباس مرفوعاً: ( خالفوا اليهود صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده )، أخرجه أحمد وابن خزيمة، وفي إسناده ضعفٌ.
الثالثة: صيام اليوم التاسع والعاشر والحادي عشر؛ لحديث ابن عباس مرفوعاً: ( صوموا يوماً قبله ويوماً بعده ) والحديث إسناده ضعيف.
الرابعة: إفراد العاشر بالصيام ؛ لحديث أبي قتادة عند مسلم (وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ).
والخلاصة في ذلك أن الافضل للعبد في صيام عاشوراء أن يصوم معه التاسع اتباعاً للأثر، وله أن يصوم الحادي عشر بدلاً من التاسع تحقيقاً للمقصد وهو مخالفة اليهود، ومن شاء أن يصوم الثلاثة كان له ذلك، ومن صام عاشوراء منفرداً لا حرج عليه إن شاء الله تعالى.
4.      الحكمة من مشروعية صيام عاشوراء:
الحكمة من صيام يوم عاشوراء تتلخص في شكر نعمة الله تعالى علينا، وتذكر معية الله جلَّ وعلا ونصرته لعباده المؤمنين، ذلك أنه يوم نجَّى الله فيه موسى عليه السلام وقومه من فرعون وجنوده، فصامه موسى شكراً لله تعالى، وصامَه نبينا صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه كما جاء في حديث ابن عباس السابق، فنحن نقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.
أما الحكمة في صيام يوم معه مخالفة اليهود في اقتصارهم على صيام العاشر؛ كما دلت عليه النصوص السابقة، والأمة الإسلامية متميزة عن غيرها من الأمم؛ فلا تكون تبعاً.
5.    هل يجب تبييتُ النية من الليل في صيام عاشوراء.
الأفضل في الصيام كله تبييت النية من الليل؛ لكنَّ صيام عاشوراء مندوبٌ وليس واجباً، وعليه فيجوز لِمَن لم يُبيِّت نيَّةَ صيامهِ مِن الليلِ أنْ ينويَ ذلكَ ما لَم يدخلْ الزَّوالُ، ويؤَذَّنَ للظُّهرِ، ما دامَ لم يِتناولْ أياًّ من المُفَطِّرات بعدَ أذانِ الفجرِ، والدليل على ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
6.    إذا وافق يومُ عاشوراء يومَ الجمعة أو السبت فما حكم صيامه ؟
إذا وافقَ يومُ عاشوراء يومَ الجمُعةِ أو السبتِ؛ فلا حرجَ من إفراده بالصيامِ؛ لوجودِ السببِ المُقتضِي لذلكَ، بل يجوزُ صومُ السبتِ في عبادَة التطوعِ؛ فقد أخرجَ ابن حبَّان وغيره عن أمِّ سلمةَ ك قالتْ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ r يَصُومُ يَوْمَ السَّبْتِ، وَيَوْمَ الْأَحَدِ، أَكْثَرَ مَا يَصُومُ مِنَ الْأَيَّامِ، وَيَقُولُ: إِنَّهُمَا يَوْمَا عِيدٍ لِلْمُشْرِكِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ أُخَالِفَهُمْ) حسَّنه الألبَانيُّ.
7.      هل يجوز صيام اليوم العاشر من محرم بنية عاشوراء وقضاء أو كفارة ؟
لا يجوزُ لمَن أرادَ صيامَ عاشوراء أنْ يجمعَ في صيامِهِ بينَ نيَّةِ صيامِ الواجبِ؛ كالقضاءِ والكفارةِ، ونيَّة صيامِ عاشوراء؛ فكلُّ عبادةٍ مقصودةٌ لذاتِها، ولا تداخُلَ بين الصومِ الواجبِ والمندوبِ؛ لكنْ إذا وافقَ يومُ عاشوراء يوم الاثنينِ أو الخميس فلا حرجَ من إشراكِ النيَّةِ فيهِما.
8.       هل يجوز تقديم صيام عاشوراء على قضاء رمضان ؟ وأيهما أفضل ؟
يجوزُ لمَن كانَ عليهِ قضاءُ صيامٍ أو كفارةٌ أن يقدِّم صيامَ يومِ عاشوراء عليهما؛ لتحصيلِ ثوابِ صيامِ هذا اليومِ الفضيلِ، وقد كان الإمامُ الزهريُّ يصومُ عاشوراء في السَّفرِ، ويُفطرُ رمضانَ، فلَمَّا سُئِلَ عن ذلكَ قال: (جَعَلَ اللهُ لرَمَضانَ عِدَّةً مِن أيَّامٍ أُخَر، وليسَ ذلكَ لعَاشُورَاء)، وقت القضاء موسّعٌ بخلاف صيام عاشوراء فغنه من المندوبات المضيقة؛ ولكن أنصَحُ مَن كانَ عليهِ قضاءُ صيامٍ أو كفارةٌ أنْ يُسَارِعَ لصيامِ مَا وَجَبَ عليهِ؛ تبرئةً لذِمَّتِهِ مِن العِبَادَةِ، وإجلالاً لله تعالى بالمسارعة إلى أداء ما افترض عليه.
9.    بعض آداب ومستحبات صيام عاشوراء:
يُستحبُ تصويمُ الأطفالِ المُميِّزينَ في يومِ عاشوراء إذا كانوا يُطيقونَ ذلك؛ تعويداً لهم على العباداتِ والنوافلِ، ولأنَّ الصحابةَ رضي الله تعالى كانُوا يفعلونَه مع صبيانهم.
كما يثبتُ لصيامِ عاشوراء من المستحبَّاتِ ما يثبتُ لرمضانُ؛ مثل تأخيرِ السَّحورِ، وتعجيلِ الفِطرِ على الرطب أو التمر مع الماءِ، وكذلكَ من أكلَ أو شَرِبَ ناسيًا أكمَلَ صَومَه؛ فإنَّما أَطعَمَهُ اللهُ وسقَاهُ.
ويُستحبُّ الإكثارُ منَ الطاعاتِ في شهرِ محرم، وأهمُّها الصيامُ، لحديثِ أبي هريرة السابق: (أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ)، وخاصَّةً ما كانَ فِي الأيامِ العشرَةِ الأوائلِ مِنْه؛ ذلك أنَّها أعظمُها لاشتمالِها علَى يومِ عاشوراء، وقد كانَ السَّلفُ الصَّالحُ يُعظمونَ هذه الأيامَ، ولكنْ لا يُشرَعُ تخصيصُ العشرةِ الأوائلِ منْ شهرِ مُحرَّم بالصيام؛ لأنَّ ذلك لم يثبتْ عن النَّبِيِّ r، ولم يُنقلْ عن أحدٍ من السلفِ الصالحِ.

الشيخ محمد سليمان الفرا
قطاع غزة - فلسطين

 

الأحد، 3 نوفمبر 2013

إتحافُ الفُضلاءِ بأحكامِ يومِ عاشوراء


إتحافُ الفُضلاءِ بأحكامِ يومِ عاشوراء
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وبعدُ: فهذهِ طائفةٌ من الأحكامِ الفقهيَّةِ والتربويَّةِ المُتعلِّقةِ بشهرِ اللهِ المُحَرَّم ويومِ عاشوراء، إليكَ بيَانها في النقطتينِ التاليتينِ:
§        أولاً: فضائلُ شهرِ اللهِ المحرَّم ويومِ عاشوراء:
1.     شهرُ محرَّم شهرٌ فضيلٌ؛ لما أخرجَ مسلمٌ في صحيحهِ عن أبِي هريرةَ " أن رسولَ اللهِ r قال: (أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاَةُ اللَّيْلِ).
2.     يُوافقُ يومُ (عاشوراء) اليومَ العاشرَ من شهرِ مُحَرَّم، ويُقالُ لليومِ الذي يسبقُه (تاسوعاء).
3.     يومُ عاشوراء لهُ مكانةٌ في الإسلامِ؛ لما أخرجَ مسلمٌ في صحيحهِ عن أبِي قتادةَ " أن النبي r قال: (وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ)، فصيامُ عاشوراء يُكفِّرُ ذنوبَ السنةِ الماضيةِ كاملةً، بشرطِ اجتنابِ الكبائرِ، وردِّ حقوقِ العبادِ لأصحابِها.
4.     يومُ عاشوراء حَدَثٌ تاريخيٌّ، فقد صامَه نبيُّ الله موسَى ; شكرًا لله الذِي نَجَّاه وقومَه، وأغرقَ فرعونَ وجندَه، وصامَهُ كفارُ قريشٍ؛ عملاً بما بقيَ عندهُم من ملَّةِ إبراهيم ;، وشكرًا للهِ تعالى لمَّا رفَع عنهم القَحطَ الذي أصابهُم، وكانوا يكسونَ الكعبةَ في هذا اليومِ من كلِّ عامٍ احتفاءً به. ويومُ عاشوراء نقطةُ تحولٍ بين الإيمانٍ والكفرٍ، ويُبشر المؤمنينَ بالنصرِ، واندحارِ الأعداءِ.
§        ثانياً: أحكامُ صيامِ عاشوراء، وشهر محرم:
1.     صيامُ يومِ عاشوراء سنةٌ عن النبي r، ويُستحبُّ لِمن أراد صيامَه أن يصومَ معه اليومَ التاسعَ مُخالفةً لليهودِ الذين يكتفون بصيامِ العاشرِ، فقد أخرج مسلمٌ في صحيحِه عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ م قال: (صَامَ رَسُولُ اللَّهِ < يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ؛ فقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ <: فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ)، فإن تعسَّر عليكَ صيامُ اليومِ التاسعِ؛ فَصُمْ الحادِي عَشَرَ معَ العاشرِ؛ تحقيقًا للمُخالفَةِ، ولو صُمْتَ الأيامَ الثلاثَة لكانَ حسنًا، ومن اقتصَرَ علَى صيامِ العَاشرِ فقط فلا حرجَ عليهِ إنْ شاءَ اللهُ تعالى.
2.     يُستحبُ تصويمُ الأطفالِ المُميِّزينَ في يومِ عاشوراء إذا كانوا يُطيقونَ ذلك؛ تعويداً لهم على العباداتِ والنوافلِ، ولأنَّ الصحابةَ ن كانُوا يفعلونَه.
3.     يجوزُ لمَن كانَ عليهِ قضاءُ صيامٍ أو كفارةٌ أن يقدِّم صيامَ يومِ عاشوراء عليهما؛ لتحصيلِ ثوابِ صيامِ هذا اليومِ الفضيلِ، وقد كان الإمامُ الزهريُّ يصومُ عاشوراء في السَّفرِ، ويُفطرُ رمضانَ، فلَمَّا سُئِلَ عن ذلكَ قال: (جَعَلَ اللهُ لرَمَضانَ عِدَّةً مِن أيَّامٍ أُخَر، وليسَ ذلكَ لعَاشُورَاء)، وننصَحُ مَن كانَ عليهِ قضاءُ صيامٍ أو كفارةٌ أنْ يُسَارِعَ لصيامِ مَا وَجَبَ عليهِ؛ تبرئةً لذِمَّتِهِ مِن العِبَادَةِ.
4.     لا يجوزُ لمَن أرادَ صيامَ عاشوراء أنْ يجمعَ في صيامِهِ بينَ نيَّةِ صيامِ الواجبِ؛ كالقضاءِ والكفارةِ، ونيَّة صيامِ عاشوراء؛ فكلُّ عبادةٍ مقصودةٌ لذاتِها، ولا تداخُلَ بين الصومِ الواجبِ والمندوبِ؛ لكنْ إذا وافقَ يومُ عاشوراء يوم الاثنينِ أو الخميس فلا حرجَ من إشراكِ النيَّةِ فيهِما.
5.     إذا وافقَ يومُ عاشوراء يومَ الجمُعةِ أو السبتِ؛ فلا حرجَ من إفراده بالصيامِ؛ لوجودِ السببِ المُقتضِي لذلكَ، ويجوزُ صومُ السبتِ في عبادَة التطوعِ؛ فقد أخرجَ ابن حبَّان وغيره عن أمِّ سلمةَ ك قالتْ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ r يَصُومُ يَوْمَ السَّبْتِ، وَيَوْمَ الْأَحَدِ، أَكْثَرَ مَا يَصُومُ مِنَ الْأَيَّامِ، وَيَقُولُ: إِنَّهُمَا يَوْمَا عِيدٍ لِلْمُشْرِكِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ أُخَالِفَهُمْ) حسَّنه الألبَانيُّ.
6.     يثبتُ لصيامِ عاشوراء من المستحبَّاتِ ما يثبتُ لرمضانُ؛ مثل تأخيرِ السَّحورِ، وتعجيلِ الفِطرِ على الرطب أو التمر مع الماءِ، وكذلكَ من أكلَ أو شَرِبَ ناسيًا أكمَلَ صَومَه؛ فإنَّما أَطعَمَهُ اللهُ وسقَاهُ.
7.     يجوزُ لِمَن لم يُبيِّت نيَّةَ صيامهِ مِن الليلِ أنْ ينويَ ذلكَ ما لَم يدخلْ الزَّوالُ، ويؤَذَّنَ للظُّهرِ، ما دامَ لم يِتناولْ أياًّ من المُفَطِّرات بعدَ أذانِ الفجرِ.
8.     يُستحبُّ الإكثارُ منَ الطاعاتِ في شهرِ محرم، وأهمُّها الصيامُ، لحديثِ أبي هريرة " السابق: (أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ)، وخاصَّةً ما كانَ فِي الأيامِ العشرَةِ الأوائلِ مِنْه؛ ذلك أنَّها أعظمُها لاشتمالِها علَى يومِ عاشوراء، وقد كانَ السَّلفُ الصَّالحُ يُعظمونَ هذه الأيامَ، ولكنْ لا يُشرَعُ تخصيصُ العشرةِ الأوائلِ منْ شهرِ مُحرَّم بالصوم؛ لأنَّه لم يثبتْ عن النَّبِيِّ r، ولم يُنقلْ عن أحدٍ من السلفِ الصالحِ.
وصلَّى اللهُ وسلَّم على سيِّدنا محمدٍ وعلى آلِه وأزواجِه وأصحابِه أجمعين

السبت، 5 أكتوبر 2013

البيانُ الشافِي في أحكامِ الأَضاحِي


البيانُ الشافِي في أحكامِ الأَضاحِي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فإليكم أحدَ عشرَ حُكماً في الأضحية:
1.  حكمُ الأضحيةِ: أفتَى جمهورُ أهلِ العلمِ بتأكُّدِ استحبابِ الأضحيةِ، ويكرهُ تركُها للقادرِ عليهَا، لما أخرج ابن ماجه عن أبي هريرة t أن النبيَّ r قال: (مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصلَّانا) حسَّنه الألباني، ولا حرجَ من الاستدانةِ لهَا إذا وَثِقَ المُضحِّي بسهولةِ قضاءِ الدَّينِ في أشهرٍ معدوداتٍ، وإلَّا فيُكْرَهُ له ذلكَ.
2.  حكمُ التضحية بالعُجول المُسَمَّنة: الأصلُ في الأضحية التقيد بالسِّن؛ لما أخرج مسلم عن جابر t أن النبي r قال: (لَا تَذْبَحُوا إِلَا مُسِنَّةً؛ إِلَا أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ، فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ)، والمُسِنُّ من العجولِ ما أتمَّ سنتينِ، ومن الغنمِ ما أتمَّ سنةً كاملةً، والجذع من الضأنِ ما أتمَّ ستةَ أشهرٍ على الأقل، وكان ضخم الحجم، فيجبُ على المُضحِي أن يبحثَ عن السنِّ المعتبرةِ في العجلِ، والمَزَارعُ لا يخلو أكثرها من ذلك، فإن لم يجد فليضحِّ بالضأنِ، فإن لم يجِد الجذعَ من الضأن، أو كان فقيرَ الحالِ، كثيرَ الأرحام والعيالِ فليُضحِّ أخيرًا بالعجول المُسمنة؛ رخصةً شرعيةً له.
3.  عيوبُ الأضاحي: أخرج النسائيُّ عن البراء t أن النبي r قال: (لَا يَجُوزُ مِنَ الضَّحَايَا أَرْبَعٌ: الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي)، والعجفاءُ هي الهزيلةُ التي لا مُخَّ لها، لكن لو كان العورُ أو العرجُ أو المرضُ أو العجف يسيراً غير واضحٍ فإنَّه لا يضرُّ، أما ذهابُ القرنِ أو بعضِه فليسَ عيبًا مؤثراً في صحة الأضحية، وأما العيوبُ الأخرى؛ فالأصلُ أنَّها لا تمنعُ من إجزاءِ الأضحيةِ؛ إلَّا إذا كانتْ تؤثرُ في وفرةِ اللحمِ، أو جَودتِه وطيبِ طعمِه.
4.  العيبُ الطَّارئُ بعدَ الشِّراءِ: لو أصابَ الأضحيةَ بعد شرائها عيبٌ؛ كأن تُصابَ بالعور أو العرج؛ فإنَّها تُجزئ على الراجح؛ إِذ العيوبُ الحادثةُ بعد الشراءِ أو التعيينِ لا تضرُّ؛ لكنَّ الأحوط لمن وجد سعة ماليةً أن يستبدلها بأخرى سليمة.
5.  اختلافُ نوايَا الشُّركاءِ: لا حرجَ في اختلافِ نوايا الشركاءِ في الأضحيةِ الواحدةِ من الإبل والبقر، ما دامت للعبادةِ أو القُربةِ؛ كما لو نوى أحدُ المشتركين في العجلِ أُضحيةً، والثاني عقيقةً، والثالث صدقةً، وهكذا، فإنَّما الأعمالُ بالنياتِ، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوَى، ويجوزُ أن يشتركَ في العِجل الواحدِ من أراد التضحيةَ، ومن أراد اللحم فقط في مذهبُ الشافعيةِ.
6.  شروطُ الاشتراكِ في الأضحيةِ الواحدةِ: إذا اشترك عددٌ من الإخوة في شاةٍ واحدةٍ مثلاً، أو أخذوا جميعاً حُصةً واحدةً من عجلٍ أو جملٍ، وكانوا غيرَ شركاء في النفقةِ؛ فإنه يُشترط أن تكونَ الأضحية عن شخصٍ واحدٍ منهم، وأما ما يدفعهُ الأبناءُ لأبيهِم، أو الإخوةُ لأحدهِم؛ لأجلِ التضحيةِ، فهو محضٌ هبةٍ وصدقةٍ، ولا يجوزُ أن يطلبَ المتبرعُ لحمًا بمقدارِ ما دفع من المالِ، وصاحبُ الأضحيةِ له أن يُهدِيَهِ بقدرِ ما تجودُ به نفسهُ؛ بشرطِ ألاَّ يكونَ ذلكَ بمقدارِ ما دفعَ من المالِ، ولا حرجَ مِن تبادلِ الأدوارِ في الأعوامِ التاليةِ، فمن كان مُضحيًا اليومَ يصبح متصدقًا غداً، ومن كان متصدقًا اليومَ يصبحُ غدًا مضحيًا.
7.  حكمُ بيعِ جلدِ الأُضحيَةِ: يحرمُ إعطاء الجَزَّارِ أجرتَه من لحمِ الأضحيةِ، أو جلدِها؛ لقول النبي r: (مِنْ بَاعَ جِلْدَ أُضحيته فلا أضحية له) حسَّنه الألباني، ولأنَّهُ يكونُ قد ضحىَّ بأقلَّ مِن شاةٍ، وأن يتصدَّقَ المضحُّونَ بجلودِ ضحاياهُم خيرٌ لهم من تعفُّنِها وفسادِها، ولا يجوزُ للمُضَحِّي بيعهُا بتاتاً.
8.  حكمُ استبدالِ الأُضحيةِ: من اشترَى أضحيةً، ثم أحبَّ أن يستبدلَها بغيرِها؛ فإنَّه لا حرجَ في ذلك؛ بشرطِ أن يكونَ الاستبدالُ إلى أحسنَ منها، بأن يكون البدلُ أوفرَ لحماً، وأنفعَ للأرحام والفقراء، وإلاَّ فلا يجوز الاستبدال.
9.  بينَ الأُضحيةِ والعَقيقةِ: إن الأضحية أعظمُ أجرًا من العقيقة، ووقتها مُضَيَّقٌ، بخلاف العقيقة فوقتُهَا مُوَسَّعٌ، ولا يجوز أن يجمع المضحي بين نية الأضحية والعقيقة في شاةٍ واحدةٍ، أو حصة واحدةٍ من عجل مثلاً؛ فمقاصد الأضحية تختلف عن مقاصد العقيقة؛ وكلامها مقصودٌ لذاتهِ، فلا تداخل بينهما.
10.    الإمساكُ عن الشَّعرِ والأظافرِ: إذا دخلت العشرُ الأوائلُ من شهرِ ذي الحجةِ استُحبَّ للمُضحِي ألا يأخُذ شيئاً مِن شَعره أو أظفَارِهِ؛ لحديثِ أم سلمة t أن النبي r قال: (إِذَا رَأَيْتُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ) متّفقٌ عليه، ولعلَّ السِّرَّ فيه أن يتشبه بالحجيج في الإمساكِ عنهما، ولو أخذ منها فنرجو ألاَّ يكون آثمًا، والإمساكُ عن الشَّعرِ والأظفارِ سُّنةٌ خاصةٌ بالمُضِحِّي دونَ أهلِ بيتِه.
11.    كيفَ تُوَزَّعُ الأُضحيَةُ: للمُضَحِّي أن يأكُل من أضحيَّته، ويُطعِمَ منها لحديثِ بريدة t أن النبي r قال: (فَكُلُوا مَا بَدَا لَكُمْ وَأَطْعِمُوا وَادَّخِرُوا) رواهُ الترمذيُّ، وقال الشَّافعيةُ: يُستحب التَّصدُّقُ بأكثرِها، وأدنَى الكمالِ أنْ يأكلَ المُضحِّي الثلثَ، ويتصدَّقَ بالثلثِ على الفقراءِ، ويُهدِي الثلثَّ للأَرحَامِ،  لِما جاءَ عن ابنِ عمرَ t قال: (الضَّحَايَا والهدَايَا: ثلثٌ لك، وثلثٌ لأهلك، وثلثٌ للمساكين) رواه الطبراني بإسنادٍ حسنٍ.
والحمد لله في الأول والختام، وعلى رسوله محمدٍ أفضل الصلاة وأتم السلام

السبت، 28 سبتمبر 2013

تعبدُّ النبي عليه الصلاة والسلام بشرع من قبله


بسم الله الرحمن الرحيم
تعبدُّ النبي < قبل البعثة وبعدها
§        أولاً: تعبد النبي < قبل البعثة:
اختلف الأصوليون في المسألة على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة لم يكن متعبداً بشيءٍ، وهو مذهب المالكية وجماعة من المتكلِّمين، واستدلوا بدليلين:
1.     لو كان النبي متعبداً بشرعٍ قبل البعثة لنقل ذلك إلينا، ولم ينقل؛ فيكون ذلك باطلاً.
2.     لو كان النبي قبل البعثة مأموراً باتباع شرع من قبله؛ لاقتضى الأمر مخالطةَ أهل هذه الشرائع لمعرفتها منهم، ولم يثبت ذلك؛ بل ثبت خلافه.
المذهب الثاني: إنَّ النبي قبل البعثةِ كان متعبداً بشرع من قبله، وهو مذهب الحنفية والشافعية، ودليلهم:
ü     إنِّ الله لم يترك عباده سدىً، بل أرسل لهم الرسلَ مبشرين ومنذرين، ليدلهم على الحق، والنبي صلى الله عليه وسلم من جملة الناس الذي أرسل لهم الأنبياء بالهدى والحق؛ بل إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أولى بالأنبياء السابقين من أقوامهم.
وقد اختلفوا فيما بينهم في الشريعة التي كان النبي مأموراً باتباعها، ولا دليل على واحدٍ منها:
1.     فقال بعضهم: شريعة أدم عليه السلام لتقدمها، وكونها اول الشرائع.
2.     وقال آخرون: شريعة نوحٍ عليه السلام؛ لأنه أول رسول على الأرض.
3.     وقال آخرون: شريعة إبراهيم عليه السلام؛ لأنها الملة الكبرى.
4.     وقال آخرون: شريعة موسى عليه السلام؛ لوضوح ما فيها، وشريعة عيسى تابعةٌ لها.
5.     وقال آخرون: شريعة عيسى عليه السلام؛ لأنها الأقرب له، وهي آخر الشرائع قبل الإسلام.
6.     وقال آخرون: كل الشرائع السابقة كانت شرعاً له عليه الصلاة والسلام.
المذهب الثالث: التوقف تعارض الأدلة، وهو مذهب الآمدي.
§        ثانياً: تعبد النبي < بعد البعثة:
بمعنى: هل النبي بعد بعثته وأمته من بعدهِ متعبدون بشرع من قبله من الأنبياء ؟ وهي ما تعرف بمسألة: ( شرع من قبلنا هل هو شرعٌ لنا أم لا ؟ )
§        المقصود بشرع من قبلنا:
المقصود بشرع من قبلنا: أحكام العبادات والمعاملات وغيرها في الشرائع السماوية السابقة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم والتي نزلت على أحد الأنبياء عليهم السلام.
§        حجية شرع من قبلنا:
ينقسم شرع من قبلنا إلى قسمين:
-       القسم الأول: ما لا تختلف فيه الشرائع وهو التوحيد وأصول الإيمان فهذا يكون فيه شرع من قبلنا شرع لنا باتفاق قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } الأنبياء 25، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد ).
ويلحق بذلك: الكليات الخمس ( حفظ الدين، والعقل، والنسل، والنفس، والمال )؛ فإنها جاءت مقرةٍ في كل الشرائع السماوية السابقةِ، ولا نسخ فيها.
-       القسم الثاني: ما تختلف فيه الشرائع وهذا له صور:
ü     الصورة الأولى: ما ثبت في شرع من قبلنا، وثبت في شرعنا ما يوافقه: فيكون شرع من قبلنا شرعا لنا؛ كالقصاص ورجم الزاني والطهارة ونحوها فهذا يكون شرعاً لنا باتفاق، وإن كان هذا في الحقيقة العمدة فيه هو الدليل الوارد في شرعنا لا شرعهم فقط.
ü     الصورة الثانية: ما ثبت أنه شرع لمن قبلنا، وثبت في شرعنا خلافه: فالعبرة بما جاء في شرعنا ولا يؤخذ بشرع من قبلنا باتفاق؛ كتحريم الشحم وقبول الدية في القتل على بني إسرائيل وإباحتهما لنا، ويدخل في هذا القسم ما ثبت أنه شرع لمن قبلنا ووافقه شرعنا ثم نسخ كالتوجه إلى بيت المقدس.
ü     الصورة الثالثة: ما يزعمه أصحاب الشرائع السابقة أنه شرع لهم وثبت في شرعنا أنه ليس شرعاً لهم: فهو إذا ليس شرعاً لنا باتفاق؛ لأنه ليس شرعاً لهم من عند الله بل هو مما افترته أيديهم، وهذا مثل عقيدة التثليث عند النصارى، وتسويد وجه الزاني الذي زعمه اليهود.
ü     الصورة الرابعة: ما ينقله أصحاب الشرائع ويزعمون أنه شرع لهم ولم يثبت في شرعنا أنه شرع لهم أو ليس شرعاً لهم: فهذا حكمه حكم الإسرائيليات يتوقف فيه لا يصدق ولا يكذب وفي الناحية العملية لا يعمل به وبعض الصوليين يظن هذا هو محل النزاع في شرع من قبلنا بين الأصوليين وهذا خطأ بل محل النزاع هو الصورة الآتية.
ü     الصورة الخامسة: ما ثبت في شرعنا أنه شرع لمن قبلنا ولم يثبت في شرعنا موافقته أو مخالفته: أي ان شرعنا أورده وسكت عنه فهذا هو محل النزاع وقد اختلف فيه على ثلاثة أقوال:
o      القول الأول: أنه يكون شرعاً لنا، وهو قول فقهاء الحنفية، والمالكية، وجمهور الشافعية والحنابلة، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد.
o      القول الثاني: انه ليس شرعاً لنا وهو قول بعض الشافعية كالغزالي والآمدي، وقال بهذا القول ابن حزم، وهو الرواية الثانية عن أحمد، وبه قال المعتزلة والأشاعرة.
o       القول الثالث: التوقُّفُ لتعارض الأدلة، وحكاه ابنُ القشيري، وحكى ابنُ برهان في الأوسط عن أبي زيد، ووهَّنه الآمدي وأعرضَ عن اعتبارِه بقوله: ومن الأصوليين مَنْ قال بالوقفِ وهو بعيد.
§        أدلة المذهب الأول:
1.    قال تعالى مخاطبًا نبينا عليه الصلاة والسلام:  ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾؛ يعني أنبياءَ بني إسرائيل، وأمرُهُ له بالاقتداءِ بهم يقتضي أنَّ شرعَهم شرعٌ له قطعًا.
2.    قال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾، فقد أمره في الآية الكريمة باتباعِ ملةِ إبراهيم عليه السلام، وهي من شرعِ مَنْ قبلَه.
3.    قال تعالى: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾، وهي تدلُّ على أنَّ الشرعين سواء، وهو المراد.
وقد أُجيب عن هذه الآياتِ: بأنَّ المُرادَ بها التوحيد، بدليل: أنَّه أمره باتباعِ هدى جميعِهم، وما وصَّى به جملتَهم، وشرائعهم مختلفة، وناسخة ومنسوخة، فيدل على أنَّه أراد الهدى المشترك.
والملة أصلِ الدين بدليل أنه قال: ﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ﴾، ولا يجوز تسفيه الأنبياءِ الذين خالفوا شريعةَ إبراهيم عليه السلام.
والهدى والنُّور أصلُ الدين والتوحيد، حيث إنَّ المراد بذلك إنما هو وجوبُ المتابعة في الأشياء التي لم تختلفْ باختلاف الشَّرائع، وتلك أصول الديانات وكلياتها؛ كقواعدِ العقائد والكليات الخمس.
4.    أنَّ النبي قضى في قصةِ الربيع بالقصاص في السنِّ، وقال: (كتاب الله القصاص)، وليس في القرآنِ: السنُّ بالسنِّ، إلا ما حُكي فيه عن التوراة بقوله تعالى: ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ﴾، فدلَّ على أنه عليه السلام قضى بحكمِ التوراة، ولم يكن شرعًا له لَمَّا قضى به.
وأجيب عنه: بأنَّه ثبت في قوله تعالى: ﴿ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ﴾، فدخل السِّن تحت عمومِ الآية
§        أدلة المذهب الثاني:
1.    أنَّ النبي عليه السلام لما بعث معاذًا إلى اليمنِ قاضيًا قال له: بم تحكم؟ قال: بكتابِ الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنةِ رسول الله، قال: فإن لم تجد؟) قال: أجتهدُ رأيي"، ولم يذكرْ شيئًا من كتبِ الأنبياء الأوَّلينَ وسننهم، فأقره النبيُّ على ذلك، فلو كانت من مداركِ الأحكام الشَّرعيةِ لجرتْ مجرى الكتابِ والسنة، ولم يَجُز العدول عنها إلى اجتهادِ الرَّأي، إلاَّ بعدَ البحثِ عنها واليأس من معرفتِها.
وأجيب عن ذلك: بأنِّ الحجة من شرائع السابقين في حقنا هي ما ورد ذكره في شرعنا، فتكون داخلة في عموم الكتاب والسنة الذين قال معاذٌ بأنه سيرجع إليهما.
2.    لو كان النبي وأمته متعبدون بشرعِ مَن قبلَه، لكان تعلُّمُها فرض كفايةٍ كالقرآنِ والأخبار، ولوجب على النبي ألا يتوقفَ على نزولِ الوحي في أحكامِ الوقائع التي لا خلوَّ للشَّرائعِ الماضية عنها، ولوجب أيضًا على الصحابةِ مراجعتُها، والبحثُ عنها والسؤالُ لناقليها عند حدوثِ الوقائع المختلف فيها فيما بينهم؛ وحيثُ لم يُنقلْ شيءٌ من ذلك عُلِم أنَّ شريعةَ من تقدَّمَ غيرُ متعبَّدٍ بها لهم.
وأجيب عن ذلك: بأنِّه ليس لازماً الرجوع لشرائعهم؛ لأنَّ الحجة منها هو ما ورد ذكره في شرعنا فقط، وليس ما ورد ذكره في الكتب السابقة التي ثبت تحريفها.
§        من أمثلة الاحتجاج بشرع من قبلنا:
استدلَّ الفقهاءُ على جوازِ قسمة منافع المال المشترك بطريق ( المهايأة ) بقولِه تعالى في قصةِ صالحٍ عليه السلام ﴿ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ ﴾، وهي جائزةٌ في المذاهب الأربعة.
واستدلَّ الحنفيةُ على جوازِ قتلِ المسلم بالذِّمِّي، والرجلِ بالمرأةِ بقوله تعالى: ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾ أي: في التوراة، واحتجَّ بالآيةِ أيضًا المالكيةُ والحنابلة على قتلِ الذَّكرِ بالأنثى.
واستدلَّ المالكيةُ والشافعية والحنابلة على جوازِ الجعالةِ بقولِه تعالى: ﴿ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ﴾.
واحتجَّ غيرُ الجمهور لجوازِ الكفالةِ بالنَّفسِ بقولِه تعالى: ﴿ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ ﴾ والشَّافعيةُ استأنسوا بهذه الآية، واحتجُّوا بعمومِ: ( الزَّعيم غارم )، والقياسِ على كفالة الدين.
احتجَّ الحنابلةُ على جوازِ كون المنفعةِ مهرًا بآيةِ: ﴿ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ﴾، واستأنس الشَّافعيةُ بتلك الآية، واستدلُّوا على الجوازِ بالقياسِ على الإجارة.
واستدلَّ مالكٌ على أفضليةِ الكِباش في الضَّحايا، ثم البقرِ ثم الإبل بما فعلَه إبراهيمُ عليه السلام من فدائه ولدَه بكبشٍ، وذهب الشافعية إلى أنَّ الافضل ما كان أكثر لحماً وأنفع للفقراء والأرحام.