السبت، 28 سبتمبر 2013

تعبدُّ النبي عليه الصلاة والسلام بشرع من قبله


بسم الله الرحمن الرحيم
تعبدُّ النبي < قبل البعثة وبعدها
§        أولاً: تعبد النبي < قبل البعثة:
اختلف الأصوليون في المسألة على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة لم يكن متعبداً بشيءٍ، وهو مذهب المالكية وجماعة من المتكلِّمين، واستدلوا بدليلين:
1.     لو كان النبي متعبداً بشرعٍ قبل البعثة لنقل ذلك إلينا، ولم ينقل؛ فيكون ذلك باطلاً.
2.     لو كان النبي قبل البعثة مأموراً باتباع شرع من قبله؛ لاقتضى الأمر مخالطةَ أهل هذه الشرائع لمعرفتها منهم، ولم يثبت ذلك؛ بل ثبت خلافه.
المذهب الثاني: إنَّ النبي قبل البعثةِ كان متعبداً بشرع من قبله، وهو مذهب الحنفية والشافعية، ودليلهم:
ü     إنِّ الله لم يترك عباده سدىً، بل أرسل لهم الرسلَ مبشرين ومنذرين، ليدلهم على الحق، والنبي صلى الله عليه وسلم من جملة الناس الذي أرسل لهم الأنبياء بالهدى والحق؛ بل إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أولى بالأنبياء السابقين من أقوامهم.
وقد اختلفوا فيما بينهم في الشريعة التي كان النبي مأموراً باتباعها، ولا دليل على واحدٍ منها:
1.     فقال بعضهم: شريعة أدم عليه السلام لتقدمها، وكونها اول الشرائع.
2.     وقال آخرون: شريعة نوحٍ عليه السلام؛ لأنه أول رسول على الأرض.
3.     وقال آخرون: شريعة إبراهيم عليه السلام؛ لأنها الملة الكبرى.
4.     وقال آخرون: شريعة موسى عليه السلام؛ لوضوح ما فيها، وشريعة عيسى تابعةٌ لها.
5.     وقال آخرون: شريعة عيسى عليه السلام؛ لأنها الأقرب له، وهي آخر الشرائع قبل الإسلام.
6.     وقال آخرون: كل الشرائع السابقة كانت شرعاً له عليه الصلاة والسلام.
المذهب الثالث: التوقف تعارض الأدلة، وهو مذهب الآمدي.
§        ثانياً: تعبد النبي < بعد البعثة:
بمعنى: هل النبي بعد بعثته وأمته من بعدهِ متعبدون بشرع من قبله من الأنبياء ؟ وهي ما تعرف بمسألة: ( شرع من قبلنا هل هو شرعٌ لنا أم لا ؟ )
§        المقصود بشرع من قبلنا:
المقصود بشرع من قبلنا: أحكام العبادات والمعاملات وغيرها في الشرائع السماوية السابقة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم والتي نزلت على أحد الأنبياء عليهم السلام.
§        حجية شرع من قبلنا:
ينقسم شرع من قبلنا إلى قسمين:
-       القسم الأول: ما لا تختلف فيه الشرائع وهو التوحيد وأصول الإيمان فهذا يكون فيه شرع من قبلنا شرع لنا باتفاق قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } الأنبياء 25، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد ).
ويلحق بذلك: الكليات الخمس ( حفظ الدين، والعقل، والنسل، والنفس، والمال )؛ فإنها جاءت مقرةٍ في كل الشرائع السماوية السابقةِ، ولا نسخ فيها.
-       القسم الثاني: ما تختلف فيه الشرائع وهذا له صور:
ü     الصورة الأولى: ما ثبت في شرع من قبلنا، وثبت في شرعنا ما يوافقه: فيكون شرع من قبلنا شرعا لنا؛ كالقصاص ورجم الزاني والطهارة ونحوها فهذا يكون شرعاً لنا باتفاق، وإن كان هذا في الحقيقة العمدة فيه هو الدليل الوارد في شرعنا لا شرعهم فقط.
ü     الصورة الثانية: ما ثبت أنه شرع لمن قبلنا، وثبت في شرعنا خلافه: فالعبرة بما جاء في شرعنا ولا يؤخذ بشرع من قبلنا باتفاق؛ كتحريم الشحم وقبول الدية في القتل على بني إسرائيل وإباحتهما لنا، ويدخل في هذا القسم ما ثبت أنه شرع لمن قبلنا ووافقه شرعنا ثم نسخ كالتوجه إلى بيت المقدس.
ü     الصورة الثالثة: ما يزعمه أصحاب الشرائع السابقة أنه شرع لهم وثبت في شرعنا أنه ليس شرعاً لهم: فهو إذا ليس شرعاً لنا باتفاق؛ لأنه ليس شرعاً لهم من عند الله بل هو مما افترته أيديهم، وهذا مثل عقيدة التثليث عند النصارى، وتسويد وجه الزاني الذي زعمه اليهود.
ü     الصورة الرابعة: ما ينقله أصحاب الشرائع ويزعمون أنه شرع لهم ولم يثبت في شرعنا أنه شرع لهم أو ليس شرعاً لهم: فهذا حكمه حكم الإسرائيليات يتوقف فيه لا يصدق ولا يكذب وفي الناحية العملية لا يعمل به وبعض الصوليين يظن هذا هو محل النزاع في شرع من قبلنا بين الأصوليين وهذا خطأ بل محل النزاع هو الصورة الآتية.
ü     الصورة الخامسة: ما ثبت في شرعنا أنه شرع لمن قبلنا ولم يثبت في شرعنا موافقته أو مخالفته: أي ان شرعنا أورده وسكت عنه فهذا هو محل النزاع وقد اختلف فيه على ثلاثة أقوال:
o      القول الأول: أنه يكون شرعاً لنا، وهو قول فقهاء الحنفية، والمالكية، وجمهور الشافعية والحنابلة، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد.
o      القول الثاني: انه ليس شرعاً لنا وهو قول بعض الشافعية كالغزالي والآمدي، وقال بهذا القول ابن حزم، وهو الرواية الثانية عن أحمد، وبه قال المعتزلة والأشاعرة.
o       القول الثالث: التوقُّفُ لتعارض الأدلة، وحكاه ابنُ القشيري، وحكى ابنُ برهان في الأوسط عن أبي زيد، ووهَّنه الآمدي وأعرضَ عن اعتبارِه بقوله: ومن الأصوليين مَنْ قال بالوقفِ وهو بعيد.
§        أدلة المذهب الأول:
1.    قال تعالى مخاطبًا نبينا عليه الصلاة والسلام:  ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾؛ يعني أنبياءَ بني إسرائيل، وأمرُهُ له بالاقتداءِ بهم يقتضي أنَّ شرعَهم شرعٌ له قطعًا.
2.    قال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾، فقد أمره في الآية الكريمة باتباعِ ملةِ إبراهيم عليه السلام، وهي من شرعِ مَنْ قبلَه.
3.    قال تعالى: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾، وهي تدلُّ على أنَّ الشرعين سواء، وهو المراد.
وقد أُجيب عن هذه الآياتِ: بأنَّ المُرادَ بها التوحيد، بدليل: أنَّه أمره باتباعِ هدى جميعِهم، وما وصَّى به جملتَهم، وشرائعهم مختلفة، وناسخة ومنسوخة، فيدل على أنَّه أراد الهدى المشترك.
والملة أصلِ الدين بدليل أنه قال: ﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ﴾، ولا يجوز تسفيه الأنبياءِ الذين خالفوا شريعةَ إبراهيم عليه السلام.
والهدى والنُّور أصلُ الدين والتوحيد، حيث إنَّ المراد بذلك إنما هو وجوبُ المتابعة في الأشياء التي لم تختلفْ باختلاف الشَّرائع، وتلك أصول الديانات وكلياتها؛ كقواعدِ العقائد والكليات الخمس.
4.    أنَّ النبي قضى في قصةِ الربيع بالقصاص في السنِّ، وقال: (كتاب الله القصاص)، وليس في القرآنِ: السنُّ بالسنِّ، إلا ما حُكي فيه عن التوراة بقوله تعالى: ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ﴾، فدلَّ على أنه عليه السلام قضى بحكمِ التوراة، ولم يكن شرعًا له لَمَّا قضى به.
وأجيب عنه: بأنَّه ثبت في قوله تعالى: ﴿ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ﴾، فدخل السِّن تحت عمومِ الآية
§        أدلة المذهب الثاني:
1.    أنَّ النبي عليه السلام لما بعث معاذًا إلى اليمنِ قاضيًا قال له: بم تحكم؟ قال: بكتابِ الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنةِ رسول الله، قال: فإن لم تجد؟) قال: أجتهدُ رأيي"، ولم يذكرْ شيئًا من كتبِ الأنبياء الأوَّلينَ وسننهم، فأقره النبيُّ على ذلك، فلو كانت من مداركِ الأحكام الشَّرعيةِ لجرتْ مجرى الكتابِ والسنة، ولم يَجُز العدول عنها إلى اجتهادِ الرَّأي، إلاَّ بعدَ البحثِ عنها واليأس من معرفتِها.
وأجيب عن ذلك: بأنِّ الحجة من شرائع السابقين في حقنا هي ما ورد ذكره في شرعنا، فتكون داخلة في عموم الكتاب والسنة الذين قال معاذٌ بأنه سيرجع إليهما.
2.    لو كان النبي وأمته متعبدون بشرعِ مَن قبلَه، لكان تعلُّمُها فرض كفايةٍ كالقرآنِ والأخبار، ولوجب على النبي ألا يتوقفَ على نزولِ الوحي في أحكامِ الوقائع التي لا خلوَّ للشَّرائعِ الماضية عنها، ولوجب أيضًا على الصحابةِ مراجعتُها، والبحثُ عنها والسؤالُ لناقليها عند حدوثِ الوقائع المختلف فيها فيما بينهم؛ وحيثُ لم يُنقلْ شيءٌ من ذلك عُلِم أنَّ شريعةَ من تقدَّمَ غيرُ متعبَّدٍ بها لهم.
وأجيب عن ذلك: بأنِّه ليس لازماً الرجوع لشرائعهم؛ لأنَّ الحجة منها هو ما ورد ذكره في شرعنا فقط، وليس ما ورد ذكره في الكتب السابقة التي ثبت تحريفها.
§        من أمثلة الاحتجاج بشرع من قبلنا:
استدلَّ الفقهاءُ على جوازِ قسمة منافع المال المشترك بطريق ( المهايأة ) بقولِه تعالى في قصةِ صالحٍ عليه السلام ﴿ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ ﴾، وهي جائزةٌ في المذاهب الأربعة.
واستدلَّ الحنفيةُ على جوازِ قتلِ المسلم بالذِّمِّي، والرجلِ بالمرأةِ بقوله تعالى: ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾ أي: في التوراة، واحتجَّ بالآيةِ أيضًا المالكيةُ والحنابلة على قتلِ الذَّكرِ بالأنثى.
واستدلَّ المالكيةُ والشافعية والحنابلة على جوازِ الجعالةِ بقولِه تعالى: ﴿ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ﴾.
واحتجَّ غيرُ الجمهور لجوازِ الكفالةِ بالنَّفسِ بقولِه تعالى: ﴿ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ ﴾ والشَّافعيةُ استأنسوا بهذه الآية، واحتجُّوا بعمومِ: ( الزَّعيم غارم )، والقياسِ على كفالة الدين.
احتجَّ الحنابلةُ على جوازِ كون المنفعةِ مهرًا بآيةِ: ﴿ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ﴾، واستأنس الشَّافعيةُ بتلك الآية، واستدلُّوا على الجوازِ بالقياسِ على الإجارة.
واستدلَّ مالكٌ على أفضليةِ الكِباش في الضَّحايا، ثم البقرِ ثم الإبل بما فعلَه إبراهيمُ عليه السلام من فدائه ولدَه بكبشٍ، وذهب الشافعية إلى أنَّ الافضل ما كان أكثر لحماً وأنفع للفقراء والأرحام.